فصل: المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثاني في كيفية انتفاع الكاتب بهذه العلوم:

غير خاف أنه إذا مهر فيه وعرف طرقه، أتى في كلامه بالسحر الحلال، صاغ من ألفاظه ومعانيه ما يقضي له بالفصاحة التامة، والبلاغة الكاملة، من وجوه تحقيق الكلام، وتحسينه وتدبيجه وتنميقه، وإذا فاتته هذه العلوم، أو كان ناقصاً فيها، نقصت صناعته بقدر ما ينقص من ذلك. ثم كما يحتاج إلى هذه العلوم بطريق الذات، كذلك يحتاج إليها بطريق العرض من جهة المعرفة بالبلغاء الذين يضرب بهم المثل في البلاغة كقس بن ساعدة، وسحبان وائل، وعمرو بن الأهتم، ونحوهم من بلغاء العرب، وابن المقفع ونحوه من المحدثين. وكما قيل في عي باقل- وهو رجل انتهى به العي إلى أنه اشترى ظبياً بأحد عشر درهما، فسأله سائل في الطريق، وهو ممسك الظبي: بكم اشتريته؟ فلم يحسن التعبير عن أحد عشر، ففرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه مشيراً إلى أحد عشر فتفلت الظبي وفر هارباً. وكمعرفة أئمة الصناعة: كالجرجاني والرماني. وكذلك المعرفة بالأسماء التي اصطلح عليها أهلها، من الفصل، والوصل، والتشبيه كما تقدم، والمقابلة، والمطابقة، وغير ذلك من أنواعها.
أما أحتياجه إلى المعرفة بأسماء البلغاء ولغة أهل الصناعة، فلأنه ربما احتاج إلى تفضيل بعض من يكتب له ممن ينسب مثله إلى البلاغة فيفضله بمساواته لبليغ من البلغاء، أو إمام من أئمة الصنعة: كما كتب الوزير ضياء الدين بن الأثير في ذم كاتب: هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده، ومن قس إياد وسحبان وائل عنده، وكما قال بعضهم يهجو ضيفاً له:
أتانا وما داناه سحبان وائل ** بياناً وعلماً بالذي هو قائل

فما زال عند اللقم حتى كأنه ** من العي لما أن تكلم باقل

ومما أتى على ذكر جماعة من أهل هذا الشأن قولي في كلام قليل جاء ذكره في آخر رسالة كتبت بها في تقريظ المقر الفتحي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف، بالأبواب السلطانية بالديار المصرية- وهو: على أني أستقيل من التقصير في إطرائه، والتعرض في مدحه لما لا أنهض بأعبائه. فلو أن الجاحظ نصيري، وابن المقفع ظهيري، وقس بن ساعدة يسعدني، وسحبان وائل ينجدني، وعمرو بن الأهتم يرشدني، لكان اعترافي بالتقصير أبلغ مما آتيه، وإقراري بالقصور أولى مما أخفيه من توالي طوله وأياديه.
وأما احتياجه إلى معرفة ألفاظ أهل الصناعة، فلأنه ربما ورى بها في تفاصيل كلامه ونحو ذلك كما كتب الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي على البديعية التي نظمها عيسى العالية الشاعر، مضاهياً بها بديعية الصفي الحلي فقال:
وبعد فقد وقفت على هذه المعجزة التي أحيا بها عيسى ميت البديع، وجود ما شاء فيها من التصريع والترصيع، ورقم لأعطافها حلل التوشيح والتوشيع، ونظم لأجياد أبياتها فرائد المعاني المستخرجة من بحر فكره على يد يراعه المريع، وقلدها من درر لفظه بما هو أزهى من زهر الزهر على نهر المجرة وهالات البدور، وشنف المسامع منها بما هو أبهى من النور في العيون وأوقع من الشفاء في الصدور، وأولج الليل في النهار بما طرس به الطروس، وأطلع في ذلك الليل من ناصع معانيه نجوماً تزهي على الشموس، وأودع المهارق شذوراً تزيف ذهب الأصائل، وتسفر عن وجوه حسان تفوق ابتسام ثغور الأزاهر بين الخمائل؛ وسلك في البديع طريقة مثلى، أظهر فيها من شهد ألفاظه وجواهر معانيه ما حلا وحلى، ولم يدع للحلي في بهجتها محلاً، وأحسن التذييل والترشيح والتهلكم عليه، من غير التفات لما أهمله ولم يتعرض إليه؛ وعادت المعاني تأوي من حسن تصرفه إلى ركن شديد، وتحوي بشبا أقلامه كل ما رامه من تأبيد التأبيد؛ وتلقي مقاليدها منه إلى ملي بحسن التحليل والتحول في نظمه ونثره، وتحكم لمن حكم له بكمال وصفه ووصف كماله بأنه نسيج وحده وفريد عصره؛ وأجرى في حلبة البديع جياد أقلامه فحاز قصب الرهان، وأصفى لها موارد النفس فارتوت واستخرجت من ظلماته جواهر البيان، ونطقت بما هو المألوف من غرائب حكمه الحسان؛ وتأملتها فوجدتها قد أجاد فيها براعة المطلع، وبالغ في تحسين المنزع والمقطع، ودخل جنان الجناس فاجتنى من قطوفها الدانية ما راق، واطردت له أنهارها فاستطرد منها في أعلى الطباق؛ وقابل وجوه حورها أحسن المقابلة، آمناً فيها من الاشتراك والمماثلة، وأوضح الفروق بين التورية والإبهام، والتوجيه والاستخدام، وأبان في التتميم نقص أبي تمام، وأودب في إبهامه عقد الخناصر على نظمه، وفوض بنزاهته التسليم له وطلب سلمه، ولم يقنع بما فيه الاكتفاء من التذييل والتذنيب، بل أتى في الاستدارك على من تقدمه بالعجب العجيب، معتمداً في تكميل مقاصده الاقتصار والإيجاز، ولو ادعى الإعجاز على الحقيقة لا المجاز لجاز؛ وتحققت أن ليس له في هذا الفن مقاو ولا مقاوم، ولا مساو ولا مساوم، فكم جلب من بحر براعته درة أشرقت في ليالي الفترة المسودة، وكم حلب من ثدي يراعته درة لها ألف زبدة، وكم بلغ الناظر من وصف بيانه مجمع البحرين، وسمع ورأى من فصله الجزل وفضله الجزيل ما هو عين المراد ومراد العين؛ وكم جلا من عرائس أفكاره وابتكاره صباح الوجوه الصباح، وخفق في الخافقين لمقاصده وبصائره جناح النجاح. وقد أصبحت كلماته لخصور الفرائد مناطق، ولبدور الفوائد مشارق، ولطلائع أسرار المباني، آلات، ولمطالع أقمار المعاني، هاللات، وقد وقعت حين وقفت على بديعيته هذه بين داءين كل منهما الأخطر، وبين أمرين أمرين كل منهما الأعسر؛ إن لم أكتب عليها شئياً فقد أخللت بالفرض الواجب، وإن كتبت فقد فضحت نفسي وعرضتها للمعايب ولكني رحت على ظلعي متحاملاً، وغدوت على حسب طاقتي في هذا الباب قائلاً:
عاش البديع وكان ميتاً وانثنى ** بادي المحاسن زاهياً محروسا

أحياه عيسى نجل حجاج وكم ** من ميت أحياه قدما عيسى

.النوع السادس: حفظ كتاب الله العزيز:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته:

قال في حسن التوسل: ولا بد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى، وإدامة قراءته، وملازمة درسه، وتدبر معانيه، حتى لا يزال مصوراً في فكره، دائراً على لسانه، ممثلاً في قلبه ليكون ذاكراً له في كلامه وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها، {فلله الحجة البالغة} وكفى بذلك معيناً له على قصده، ومغنياً له عن غيره. قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقال جل وعز: {تبياناً لكل شيء}. قال في المثل السائر: كان بعضهم يقول: لو ضاع لي عقال لوجدته في القرآن الكريم. قال في حسن التوسل: وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم، ومخاطباتهم، مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله كما حكي أن سائلاً سأل بعض العلماء أين تجد في كتاب الله معنى قولهم: الجار قبل الدار؟ قال في قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربي ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة.
وقد اختلف في جواز الاستشهاد بالقرآن الكريم في المكاتبات ونحوها: فذهب أكثر العماء إلى جواز ذلك ما لم يحل عن لفظه ولم يتغير معناه. فقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب في كتابه إلى هرقل: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى قوله: {مسلمون}؛ وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر بن الخطاب: {ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم}. {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} على ما سيأتي في ذكر عهود الخلفاء عن الخلفاء إن شاء الله تعالى. وكتب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في آخر كتاب إلى معاوية وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك {وما هي من الظالمين ببعيد}. وقال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية: {وما كنت متخذ المضلين عضداً}. وكتب إلى عامل من عماله بعد البسملة {قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية من الله خير لكم إن كنتم مؤمنين * وما أنا عليكم بحفيظ}. وقال الحسن بن علي لمعاوية حين نازعه في الخلافة: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}. ويروى عن ابن عباس مثله. وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لعالمين وكافة للناس أجمعين {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين}. وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي إلى المنصور في صدر كتاب {طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} إلى قوله: {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}. ولم يزل العلماء وفضلاء الكتاب يستشهدون بالقرآن الكريم في مكاتباتهم في القديم والحديث، من غير نكير؛ وذلك كله دليل الجواز. ونقل عن الحسن البصري ما يدل تعلى كراهة ذلك حيث بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية فقال: أنسي نفسه حين كتب إلى عبد الملك بن مروان: بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً}. قال في حسن التوسل: وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم إلى أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز الاستشهاد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه مثل قوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقوله: {بلى ورسلنا لديهم يكتبون} ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله تعالى.
قال في المثل السائر: وإذا ضمنت الآيات في أماكنها اللائقة بها، ومواضعها المناسبة لها، فلا شبهة فيما يصير للكلام من الفخامة والجزالة والرونق. قال في حسن التوسل: ومن شرف الاستشهاد بالقرآن الكريم إقامة الحجة، وقطع النزع، وإذعان الخصم. قال في حسن التوسل: وأين قول العرب- القتل أنفى للقتل- لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقد روي أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله تعالى وإلا قتلتك فقرأ عليه: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى} فعيسى ابن بنته فأسكت الحجاج. وأيضاً فإن الآية الواحدة تقوم في بلوغ الغرض، وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة والأدلة القاطعة.
فمن أخصر ما وقع في ذلك وأبلغ أنه كان على الروم بهرقلة في أيام الرشيد امرأة منهم، وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير، فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد وخاشن الرشيد؛ فخافت على ملك الروم فقتلت ولدها، فغضب الروم لذلك، فخرج عليها رجل منهم يقال له يقفور فقتلها واستولى على الملك وكتب إلى الرشيد: أما بعد، فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرخ، وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك! فلما قرأ الكتاب. قال للكتاب: أجيبوا عنه! فأتوا بما لم يرتضه، وكان الرشيد خطيباً شاعراً فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى يقفور كلب الروم. أما بعد، فقد فهمت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام على من اتبع الهدى.
ثم خرج في جمع له لم يسمع بمثله فتوغل في بلاده وفتك وسبى؛ فأوقد يقفور في طريقه ناراً شديدة فخاضها محمد بن يزيد الشيباني، وتبعه الناس حتى صاروا من ورائها؛ فلما رأى يقفور أنه لا قبل له به، صالحه على الجزية يؤديها عن رأسه وعن سائر أهل مملكته.
وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعده ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فلم يعجبه مما كتبوا شيئاً فقال لبعضهم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار}. هذا مع ما ينسب إليه المعتصم من ضعف البصر بالعربية كما تقدم في الكلام على اللغة. ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم، والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد.
ومثل ذلك في الجواب وأخصر منه أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس، كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمي المسلمين بالأندلس، بخط وزير له يقال له ابن الفخار: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض والصلاة على السيد المسيح ابن مريم الفصيح، أما بعد: فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب، وعقل لازب، أني أمير الملة النصرانية، كما أنك أمير الملة الحنيفية، وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة وأنا أسومهم الخسف وأخلي منهم الديار، وأجوس البلاد، وأسبي الذراري، وأقتل الكهول والشبان لا يستطيعون دفاعاً، ولا يطيقون امتناعاً، فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله عز وجل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا؛ ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة الإقبال، وتماطل نفسك عاماً بعد عام؛ وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ ولست أدري إن كان الجبن أبطأك أو التكذيب بما أنزل عليك ربك؛ ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلاً لعلة لا يجوز لك التفخم به معها؛ فأنا أقول ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن، وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني، وأجوز بحملتي إليك، وأبارزك في اعز الأماكن عليك؛ فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين، والحكم على الدينين، والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة، ويوفق للسعادة، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فكتب رحمه الله جواباً على أعلى كتابه {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون}.
ونظير ذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر. فكتب جوابه من ديوان الخلافة {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

.المقصد الثاني في كيفية استعمال آيات القرآن الكريم:

واعلم أن تضمين الكلام بعض آي القرآن الكريم ينقسم عند أهل البلاغة إلى قسمين: أحدهما: الاستشهاد بالقرآن الكريم، وهو أقلهما وقوعاً في الكلام ودوراناً في الاستعمال: وهو أن يضمن الكلام شيئاً من القرآن الكريم، وينبه عليه مثل قول الحريري في مقاماته: فقلت وأنت أصدق القائلين: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وقول أبي إسحاق في عهد لملك عن خليفة بعد الأمر بالتقوى والحث عليها: فإذا اطلع الله منه على نقاء حبيبه، وطهارة ذيله، وصحة مروءته، واستقامة سيرته، أعانه على حفظ ما استحفظه، وأنهضه بثقل ما حمله، وجعل له مخلصاً من الشبهة، ومخرجاً من الحيرة. فقد قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وقال عز اسمه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} إلى آي كثيرة حضنا بها على كرم الخلق، وأسلم الطرق؛ فالسعيد من نصبها رأي ناظره، والشقي من نبذها وراء ظهره، وأشقى منه من يحث عليها وهو صادف عنها، فأجاب إليها وهو بعيد منها. وله ولأمثاله يقول الله عز وجل: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} وأكثر مشي الصابي في كتابه على هذا الأسلوب من الاستشهاد، والتنبيه على آي القرآن في خلال كلامه، دون الإشارة إليه، والاقتصار على اقتباس معناه.
ومن ذلك قول علاء الدين بن غانم من خطبة قدمة كتب بها لمظفر الدين موسى بن أقوش وقد صرع لغلغة، وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه: نحمده على توفيقه الذي ساد به من ساد وسما، وأصاب بتفويقه بمعونة ربه طير السما، فحسن أن يتلى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة: فقد نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها، فقال جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة: فقد نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها، فقال جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} فأخبر تعالى أنه علم بالقلم، حيث وصف نفسه بالكرم، إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، وإيذاناً منحها من أوفر جوده وفائض ديمه؛ وقال جلت قدرته {ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون} فأقسم بالقلم، وما سطرته الأقلام، وأتى بذلك في آكد قسم، فكان من أعظم الأقسام. وقال جلت عظمته: {وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين} فجعل الكتابة من وصف الكرام، كما قد جاء فعلها عن جماعة الأنبياء عليهم السلام، وإنما منعها النبي صلى الله عليه وسلم معجزة قد بين الله تعالى سببها، حيث ذكر أخبارهم بقوله: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها}.
وقولي من هذه المقامة في التعبير عن المقر البدري بن فضل الله.
قلت حسبك قد دلني عليه عرفه، وأرشدني إليه وصفه، وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم، وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
وقولي في اختتام هذه المقامة معبراً عن المقر البدري المشار إليه: فلما تحققت أني قد أثبت في ديوانه، وكنت من جملة غلمانه، رجعت القهقري عن طلب الكسب، وتساوى عندي المحل والخصب؛ فاستغنيت بنظري إليه عن الطعام والشراب، وتحققت أن نظرة منه ترقيني إلى السحاب، وتلوث بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}.
وقولي في بيعة خليفة أنشأنها بعد ذكر تحليف أهل البيعة: وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام، والشهود والحكام، وجعلوا الله على ما يقولون وكيلاً، فاستحق عليهم الوفاء بقوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً}. وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور، ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
وقولي في بيعة أخرى: واله يجعل أنتقالهم من أدنى إلى أعلى، ومن يسرى إلى يمنى، ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً}.
الثاني: الاقتباس، وهو أن يضمن الكلام شيئاً من القرآن، ولا ينبه عليه: كقوله في خطبة التعريف: نحمده على فواضل زادت محاسن العلوم، وعرفت تفاوت درجات الأولياء إذ قالوا: {وما منا إلا له مقام معلوم}. وقوله بعد ذلك: وسماء الشبيبة بضحى المشيب قد تجلت، والنفس قد {ألقت ما بها وتخلت}.
وقوله ابن نباتة السعدي في بعض حطبه: فيا أيها الغفلة المطرقون! أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم لا تسمعون! {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} وقوله يوم يبعث الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً. ويوم تكونوا {شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}.
وقول غيره: أتظنون أنكم دون غيركم مخلدون {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون}.
وقول الحريري: فلم يكن إلا {كلمح البصر أو هو أقرب}. حتى أنشد فأعرب. وقوله: {أنا أنبئكم بتأويله}. وأميز صحيح القول من عليله.
وقول ضياء الدين بن الأثير في فصل من كتاب في مدح الجود وذم البخل: وقد علم أن المال الذي يختزن، كالماء الذي يحتقن، فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه. فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتناع مواهبه. وأي فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب. وتفل به الخطوب. ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب؛ ومن بسط يده فيه ثم قبضها بخله، فإنه يقف دون الرجال مغموراً، ويقعد عن نيل المعالي محسوراً. وإذا أدركته منيته مضى وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً. وقوله في وصف كاتب: له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تمهله. {فأتت به قومها تحمله}. ولم تعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله.
وقول الشيخ شهاب الدين محمود الحبي من عهد السلطان: وجمع بك شمل الأمة بعد أن كاد يزيغ قلوب فريق منهم، وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم، وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون {وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} وقوله من عهد السلطان الملك المنصور لاحين: وجعل عدوه وإن أعرض بجيوش الرعب محصوراً. وكفاه بالنصر على الأعداء التوغل في سفك الدماء فلم يسرف في القتل إنه كان منصوراً. وقوله في خطبة صداق في وصف نكاح: وأحيا به الأمم وقد قضى دينهم. وجمع بين متفرقين {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}. وقوله من توقيع بإمامة صلاة: وليعلم أنه في المحراب مناجياً لربه واقفاً بين يدي من يحول بين المرء وقلبه.
وقولي في خطبة هذا الكتاب في الإشارة إلى فتح الديار المصرية: فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن الفاروق فجاسوا خلال الديار، وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار، {وكانوا أحق بها وأهلها} وقولي في المقامة المتقدمة الذكر: قال إذن قد تعلقت من الصنعة بأسبابها. وأتيت البيوت من أبوابها. وقولي فيها: قلت قد بانت لي علومها. فما رسومها؟ قال إن أعباءها لباهظة حملاً. وإنها لكبيرة إلا. ولكن سأحدث لك ذكراً وأنبئك بما تحط به خبراً. وقولي في المفاخرة بين السيف والقلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل. صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام. وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام}.
وربما اقتصر على التلويح والإشارة خاصة: كقول القاضي الفاضل فيما كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الديوان العزيز ببغداد في الاستصراخ وتهويل أمر الفرنج: {رب إني لا أملك إلا نفسي}، وها هي في سبيلك مبذولة، وأخي وقد هاجر إليك هجرة يرجوها مقبولة.
وقول ضياء الدين بن الأثير في وصف غبار الحرب: وعقد العجاج سقفاً فانعقد. وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد. غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد. وزينت بنجوم الصعاد. ففيها ما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق. ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق.
قال والوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله: والطريق في استنباط المعاني من القرآن الكريم واستعمال الآيات في خلال الكلام أن تعمد إلى سورة من القرآن، وتأخذ في تلاوتها وكلما مر بك معنى أثبته في ورقة مفردة حتى تنتهي إلى آخرها؛ ثم تأخذ في استعمال تلك المعاني التي ظهرت وإدخالها في خلال الكلام وكلما عاودت التلاوة وكررتها ظهر لك من المعاني ما لم يظهر لك في المرة التي قبلها.
ولتعلم أن الآية الواحدة قد تقع في الاستعمال على عدة وجوه يورده الناثر في معنى ثم ينقله لمعنى آخر غيره كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}. فقال في دعاء كتاب: وصل كتاب من الحضرة السامية أحسن الله أثرها، وأعلى خطرها، وقضى من العلياء وطرها، وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها، وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها. ثم أبرزه في معنى آخر فقال: أكرم النعم ما كان فيه ذكرى للعابدين. وتقدمه إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير. وتجلوا ظلمة الخطب بإيضاح المنير. فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كشل شيء قدير. ثم نقله إلى معنى آخر فقال من تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء: وقد علم أن أمير المؤمنين أدنى مجلسه من سمائه، وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه. ورفعه حتى ودت الشمس لو كانت من أترابه والقمر لو كان من ندمائه. وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته. ولا الآمال أن تطوف حول كعبته، ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته. فليزدد إعجاباً بما نالته من مواطئ أقدامه، ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه.
قال في حسن التوسل: والناس في استخراج المعاني من القرآن الكريم، واستعمالها في الكلام على قدر طبقاتهم وتفاوت درجاتهم. فمفرط في الحسن ومفرط وفوق كل ذي علم عليم.
قلت: وكما يحتاج الكاتب إلى حفظ كتاب الله تعالى والعلم بتفسيره ليقتبس من معانيه كذلك يحتاج إلى معرفة العلوم المختصة به كالعلم بالقراءات السبع والشواذ، ومعرفة رجالها، ومن اشتهر منه وعرف بجودة القراءات السبع والشواذ، ومعرفة رجالها، ومن اشتهر منهم وعرف بجودة القراءة، ومعرفة أعيان المفسرين ورؤوسهم، ليماثل بأفاضلهم ويقايس بأعيانهم، في خلال ما يعرض له من الكلام مطابقاً لذلك كما قال في التعريف في وصية مقرئ في القسم الثالث من الكتاب: وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن، فإنه مصباح قلبه. وصلاح قربه، وصباح القبول المؤذن له برضا ربه؛ وليجعل سوره له أسواراً، وآياته تظهر بين عينيه أنواراً. وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ، وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشواذ. ولا يرتد دون غاية لإقصار، ولا يقف فبعد أن أتم لم يبق بحمد الله إحصار، وليتوسع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القراء السبعة أئمة الأمصار، وليبذل للطلبة الرغاب، وليشبع فإن ذوي النهمة سغاب: ولير الناس ما وهبه اله من الاقتدار، فإنه احتضن السبع ودخل الغاب، وليتم مباني ما أتم ابن عامر وأبو عمرو له التعمير، ولفه الكسائي في كساه ولم يقل جدي ابن كثير، وحم به لحمزة أن يعود ذاهب الزمان، وعرف أنه لا عاصم من أمر الله يلجأ معه إليه وهو الطوفان، وتدفق يتفجر علماً وقد وقفت السيول الدوافع، وضر أكثر قراء الزمان لعدم تفهيمهم وهو نافع، وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب، وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو نافع، وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب، وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب. وهو يعلم ما من الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النعماء، ووصل سببه منه بحبل الله الممتد من الأرض إلى السماء. فليقدر حق هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم، والإنصاف إذا سئل فعلم الله لا يتناهى وفوق كل ذي علم عليم.